الغرب يجعل من تركيا جسر بينه و بين العالم الإسلامي

■■ « الأتراك (العثمانيين) و جذورهم »
تاريخيا و باختصار شديد الأتراك هم أقوام بدوية نزحت من منطقة (تركستان) و التي تم تقسيمها فيما بعد الى "تركستان الشرقية" و التى تعتبر الآن جزء من الصين الشعبية و "تركستان الغربية" وتم تقسيمها الى خمس دول وهم "كازاخستان وتركمانستان وقرغيزستان وطاجكستان وأوزبكستان" و قد قام جنكيز خان بمكافئة ( ارطغرل) و قبليته التركستانية فى تعاونهم معه في حرب البيزنطيين (اليونانيين) فأقطعه وقبيلته بقعة من الأرض في محاذاة بلاد الروم غربي دولة سلاجقة الروم. (منطقة في تركيا حاليا فى الشمال الشرقي) و استقل بإمارته على هذه الأرض المعطاة من عام (699 هـ 1299 م) و في العام (923 هـ 1517 م ) انتقلت الخلافة الشرعية لسليم الأول (التركي) بعد تنازل المتوكل على الله أخر خليفة عباسي في القاهرة و أخذ (الأتراك) بعد ذلك فى توسيع أراضى إمارتهم المعطاة لهم على حساب الأراضي الجورجية و السريانية الآرامية و الأرمنية و اليونانية

فى يوم 29 مايو من (875 هـ -1453 م) استطاع الأتراك (العثمانيين) بقيادة محمد الثاني و الملقب بالفاتح من احتلال مدينة القسطنطينية (إسطنبول) حاليا و هي تعتبر بمثابة (الفاتيكان) لمسيحي الشرق الأرثوذكس (400 مليون تقريبا) و تم تحويل الكاتدرائية الخاصة بهم و الشهيرة بـ (الحكمة المقدسة) الى جامع و سمى (آيا صوفيا أو الحاجة صوفيا) و الكنيسة هذه قد بناها الإمبراطور جوستينان عام (326 م ) وقد حولها أتاتورك الى متحف إسلامي في مطلع القرن العشرين و لا يخجل الأتراك من ماضيهم الدموي عندما يتباهون بهذا الصرح السياحي العالمي و هم لم يتواجدوا على هذه الأراضي المسماة الآن (الدولة التركية) قبل سبعة قرون (700 عام)

خريطة أراض تركيا قبل و بعد الغزو و الأراضي الكردية [ http://algenena.blogspot.com/p/blog-page_19.html ]

■■ « الأتراك (العثمانيين) و إلغاء الخلافة »
خرجت مصر من عباءة الخلافة في بداية حكم أسرة محمد على وحدث نفس الشيء من قبل مع دول شمال أفريقيا و بسبب الاستعمار الفرنسي ومسلمي دول جنوب شرق أسيا بسبب الاستعمار الإنجليزي و الهولندي و بالتالي انحصرت الخلافة العثمانية على منطقة تركيا و تركستان و منطقة الحجاز و اليمن و دول بلاد الشام و بعد تمردهم و قيامهم بالثورات العربية من عام (1916 - 1919) مدعومين من الإنجليز و الفرنسيين حتى تم طرد الأتراك نهائيا من كل أراضى الجزيرة العربية و اليمن و بلاد الشام و انحصرت الخلافة في تركيا و قام فيما بعد (اتاتورك) بإلغائها عام (1342هـ - 1924 م )

إذا كان هناك البعض من المسلمين قد ندم على إلغاء الخلافة و سقوطها و لكن الغالبية العظمى منهم كانت كارهة لحكم العثمانيين و الأتراك و كان من أهم أسباب هذه الكراهية هو تغلب القومية التركية و تعاليها على باقية القوميات كما أن الكراهية المتبادلة بين المسلمين عموما و العرب خصوصا تجاه الدولة العثمانية و الأتراك أصبح شئ ملموس و من الصعب إخفاءه و مداراته

■■ « الأقليات و الطوائف في تركيا »
يمثل الأكراد في تركيا حوالى 26% من مجموع السكان و هم أقلية غير معترف بها رسميا و يقطن غالبيتهم في شرق و جنوب شرق تركيا و غالبية الأكراد في تركيا من المسلمين (70% شافعية و 30% علوية) و عدة آلاف اتباع من الديانات الأخرى أمثال الايزيديين والمانويين والصابئة المندائية والأذيدية (50 ألف) تتقارب في بعض ملامحها و طرقها مع العقائد الفرعونية القديمة

الإيديولوجيا الرسمية التركية (الدستور) لا تعترف مطلقاً بالأكراد كمجموعة عرقيـة مختلفة عن العرق التركي ، وتعتبرهم أتراكاً ، وكانت تطلق عليهم لقب "أتراك الجبال". واستمرت هذه النظرة الرسمية سائدة حتى آخر العام (1991) تم الاعتراف على مستوى الإعلامي فقط  يعانى الأكراد من التهميش على المستوى الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي و باعتبارهم درجة ثانية في المجتمع!

يمثل حوالي(5%) من مجمع السكان بعض الأقليات الأخرى مثل العرب (1%) و اليهود (25 ألف) و اللاز (2%) والشركس (5.%) والكرج.و البهائين (20 ألف) ومجموعات عرقيـة أخرى من آسيا الوسطى (أوزبك، قرغيز، قازاق، تاتار، اويغور، اذريون،...) وغيرهم و تتمثل المسيحية في الأرمن و اليونانيين و السريان و الروس و الألمان والأستونيُّون و الجورجيون و هم يمثلون حوالي (1%)

يمثل العلويين حوالي (25%) من السكان و يمثل المسلمين السنة (المذهب الحنفي و ذى طابع صوفي ) حوالي (44%) و هم يعتبرون الأغلبية في تركيا
يعانى العلويين من الاضطهاد على المستوى الشعبي و بالأخص في أماكن التعايش المشتركة بينهم في المدن الكبرى مثل اسطنبول و غيرها و يعانون أيضا من التميز الديني على المستوى الرسمي و المتعلق بالتعليم الديني و الأوقاف و المساجد و الضغوط  النفسية والسياسية والاجتماعية ما زالت مستمرة و متواجدة و لا يستطع العلويين بكل حرية ممارسة عاداتهم و طقوسهم و صلواتهم الخاصة بهم و لذا تجدهم أكثر تشبث بالدستور العلماني عن المسلمين السنة!

■■ « نقاط الضعف في النظام و الدولة التركية »
تتسبب التركيبة العرقية و الطائفية لسكان تركيا في نقاط ضعف و من الممكن أن تقيد نظام الدولة في يوم ما و يمسك الغرب و أمريكا بملفات تلك القضايا مثل القنابل القابلة لانفجار في أي لحظة و يضعها في أدرجه (أي الملفات) و لإخراجها لاستعمال وقت اللزوم!

يعتبر (الملف العلوي) إحدى نقاط الضعف لنظام والدولة نظرا لاضطهاد و التهميش الواقع على العلويين و المحاولات المستمرة لتفريغ طائفتهم من اتباعها و لكن بأسلوب ناعم و موقف تركيا الرسمية المعارض الآن لحكم العلويين في سوريا له الكثير من المبررات الإستراتيجية لها

يعتبر (الملف الكردي) من أقوى نقاط الضعف و تفعيلة و استخدامه يعتمد على موقف أمريكا و الغرب منه و بالمثل (الملف الأرمني) و الذى يطالب فيه الأرمن باعتراف رسمي من الأتراك بالتطهير العرقي و المذابح الجماعية التي قد فعلها (العثمانيين) ضد الأرمن و السريان و الكلدان و الآشوريين ( 1.5 مليون شهيد ) خلال الحرب العالمية الأولى و حتى يتسنى دفع تعويضات على ذلك

(الملف المسيحي المشرقي) و محاولات اليونانيين و الأرمن الدائم لاسترجاع تراثهم من كنائس و أديرة و خلافه من أيدي الأتراك و لا ننسى بالأخص مدينة اسطنبول (القسطنطينية سابقا) و بها الكاتدرائية الكبرى (آيا صوفيا) و هي تعتبر بمثابة الفاتيكان لطائفة الأرثوذكسية الشرقية أو ما يشابه هيكل سليمان عند اليهود و مهما حاولت تركيا من طمث لمعالمها المسيحية بها لن يتخلى مسيحي الشرق عن تراثهم بها!

■■ « الأتراك و طريق العلمانية هو الحل »
يقف النظام التركي على عمودين هما مؤسسة الجيش و مؤسسة القضاء العلمانيتين و الصراع مستمر بين الأحزاب ذات التوجه الإسلامي و بين هاتين المؤسستين و لم ينتهي بعد!

لا يوجد مدينة في تركيا ألا و بها حانات لممارسة الدعارة والبغاء (زواج المتعة) علانية و تحت حراسة الشرطة و هذا معروف جيدا لعرب السعودية و الخليج لذا تجد نسبة التحرشات الجنسية قليلة لغاية بتركيا مقارنة بالدول الإسلامية الأخرى و كما أن نسبة "الشذوذ الجنسي" لا تزيد عن المعدل المتعارف عليه عالميا و مقارنة بدول الخليج التي تزداد بها نسبة ممارسة الشذوذ الجنسي بين الرجال و بين النساء عن المعدل و أصبحت ظاهرة خطيرة في هذه المجتمعات الخليجية

يحظر في تركيا تعدد الزوجات بموجب قوانين الدولة العلمانية التركية منذ عام 1926، والتي شملت أيضا السماح للمرأة المسلمة بالزواج من غير المسلم كما أن هناك حرية ممارسة و اختيار العقيدة وبالتالي يمكن التحول من الإسلام إلى المسيحية رسميا و لكن على المستوى الشعبي لم يتطور بعد!

عندما قام حزب العدالة و التنمية ببعض التغيرات الدستورية ، أعتقد البعض خاطئين أن هذه التغيرات بمثابة ردة عن المسار العلماني ، و لكن في حقيقة الأمر كانت لاستيفاء بعض شروط العضوية في الاتحاد الأوربي لفصل بين مؤسسات الدولة و من الممكن أن يكون هناك تغيرات في بعض القوانين أو حتى في الدستور و لكنها لن تمس المبادئ العلمانية المتعارف عليها

تعتبر الدولة التركية و حزب العدالة أيضا أن العلمانية هي الطريق و الحل لمشاكل الاجتماعية و العرقية و الاقتصادية و حتى التاريخية منها و أن طموحها سوف يقودها في النهاية إلي قيادة دول الشرق و العالم الإسلامي بسبب ممارستها لحياة العلمانية

■■ « تركيا و عضوية الاتحاد الأوربي »
تعلم تركيا الآن جيدا انه من المستحيل قبول عضويتها كاملة في الاتحاد الأوربي كـ (نادى اجتماعي) و ليس فقط بسبب (الدين الإسلامي) الذي يدين به غالبية الأتراك و لكن لأسباب تاريخية كثير أخرى!

قام الجنود العثمانيين في الماضي القريب بطرق أبواب(فينا)  مرتين طامعين في (فتحها) و لولا وصول البولنديين لإنقاذ المدينة من السقوط  لما كانت أوربا على هذا الشكل الذي نراه الآن

الأقلية الإسلامية في البوسنة و في مقدونيا و في المجر و في رومانيا و في بلغاريا بالإضافة إلى البانية و ألبان كسوفه جميعهم قد فرض عليهم الإسلام و تحولوا بالقوة إبان الاستعمار العثماني لهذه البلاد

هذا التاريخ الدموي بين دول الأوربية و الإمبراطورية العثمانية (الأتراك) مازال قابع في نفوس الشعوب و يحتاج لفترة طويلة حتى يتغير و يتلاشى!

تستغل تركيا حالة الرفض الغير رسمية هذه للحصول على وضع مميز بالنسبة لاتحاد الأوربي من جهة جلب الاستثمارات التكنولوجية و جلب السياحة إليها و التسهيلات في التصدير و يتفهم الغرب ذلك أيضا و يساعد حتى تصبح تركيا (قدوة) في العالم الإسلامي سياسيا و اقتصاديا و ثقافيا و اجتماعيا

■■ « تركيا و وهم الخلافة عند البعض »
مازال البعض في العالم الإسلامي لا يعيش العصر و يحلم برجوع الخلافة مرة ثانية كما كانت في الماضي متجاهلا أننا نعيش حاليا عصر تكنولوجيا الأعلام و المديا و العصر الإلكتروني (صناعيا و فنيا) و بسبب هذه التكنولوجيا الجديدة أصبحت قوة الدفع المستمدة من التميز و التجمع على أساس عرقي و قومي من "الثوابت" و التي يتم استرجاعها و البحث عنها و الحنين إليها و قد أخذت الأولية عن قوة الدفع المستمدة من التجمع على أساس "ديني و أيدلوجي" و التي أصبحت من "المتغيرات"

نحن في عصر أو قرن البحث عن "الجذور" و استشهد بالاتحاد السوفيتي و باليوغسلافي و السودان و القومية العربية و الوطن العربي و الأمة الإسلامية و كل تلك المسميات و التجمعات و التي أصبحت من الماضي!

لن يحدث كما أرد مرشد الأخوان السابق (أستاذ طظ) أن يحكم المصرين "ماليزي" أو العكس و لن تتقبل أي قومية في العالم الإسلامي فيما بعد إي حاكم من قومية أخرى تحت اسم "الخلافة"

أن كان "الخليفة" عربي قريش أو من الـ البيت أو من روسيا أو من تركيا أو من غيرهم ، لن تقبل الشعوب و الأعراق و القوميات المختلفة هذا مستقبلا!

■■ « تركيا و القفزة الاقتصادية »
يعتقد البعض في الشرق الأوسط و بسذاجة و كما تروج له بعض الصحف و الفضائيات أن سبب هذه القفزة الاقتصادية التركية هو وصول الإسلاميين إلى الحكم و هذا خطأ كبير!

الإصلاح الاقتصادي قد بدأ في تركيا منذ بداية التسعينات من القرن الماضي و ما قام به حزب العدالة هو التسريع من الدورات الاقتصادية و التحكم فى الأنفاق و التقليل من الفساد و الانفتاح الكامل على الغرب بدون تحفظ لمساعدته في كثير من المجالات!

أعتمد حزب العدالة و التنمية التركي الحاكم ذو التوجه الإسلامي و (ليس المرجعية الإسلامية) على قطاع السياحة لزيادة الدخل العام القومي من خلال زيادة الخدمات و الصناعات المصاحبة لهذا القطاع السياحي و الذي يستقطب الكثير من العمالة الغير مكلفة في إعدادها و تدريبها

الازدهار السياحي في أي مكان يكون مثل (البوصلة) و (مؤشر الأمان) لمستثمرين و خاصة في الدول ذات الغالبية المسلمة و من خلال هذا الازدهار يمكن استقطاب الاستثمارات التكنولوجية الصناعية الحديثة و هذا ما فعله حزب العدالة و التنمية و قد زادت أعداد السياح القادمين إلى تركيا خلال العشرة سنوات الماضية من (12 مليون) إلي (29 مليون) سائح في عام 2010 و يمثل قطاع السياحة بشكل مباشر و غير مباشر بنسبة (15%) من الناتج القومي و ينتظر أن يصل هذا العدد خلال الخمسة سنوات القادمة إلى (45 مليون) سائح كرد فعل و استغلالا للاضطرابات الحادثة في مصر و سوريا و تونس و جنوب المتوسط!

استطاعت تركيا تخفيض الدين العام لها خلال عشرة سنوات من (80%) إلى (48%) من الناتج القومي عام 2010 و قد تضاعف الناتج القومي خلال ثمانية سنوات إلى (735 مليار دولار) ........بيانات عن البنك الدولي

■■ « الغرب يجعل من تركيا جسر بينه و بين العالم الإسلامي »
هذا ليس سر و لكنه شئ يقال في العلن و منذ فترة طويلة و يذكره الكثير من السياسيين الأوربيين و هم يساعدون في هذا الاتجاه و يتمنون لهذه التجربة أعاده التكرار في باقية الدول الإسلامية الأخرى

لا يريد الغرب من تركيا القيادة الروحية أو القيام بدور الشرطي في الشرق الأوسط و لكنه يريد القيادة الناعمة في مجالات الحياة المختلفة و بالأخص سياسيا و اجتماعيا و ثقافيا و لا يفوتنا بالذكر هذا المسلسل العائلي التركي الشهير الذي ألهب مشاعر مشاهديه و كان إحدى الخطوات الناجحة في هذا الاتجاه الناعم

تقوم تركيا باستخدام نفس الأدوات التي كانت تقود بها مصر العالم الإسلامي و الشرق الأوسط من بداية الخمسينات إلي النهاية السبعينات من خلال تفوقها في مجالات الفنون و الأدب و المسرح و السينما و العلوم الإنسانية و من خلال تسامح و تحضر مشايخ الأزهر قبل انقضاض الأخوان و السلفيين و السعودية عليه و تشويه سمعته دوليا و أيضا من خلال التسامح و التعايش السلمي (الذي كان قائم) بين المسلمين و المسيحيين في مصر ومستغله التمازج و التناغم الثقافي بينهما و المفقود الآن!